المادة    
ومما يدل على ذلك حديث عظيم، وهذا الحديث يدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة ، وهو حديث ( الإيمان بضع وستون شعبة... )، فهذا الحديث فيه أن الإيمان شعب، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية التامة ثلاث شعب: العليا، والدنيا، وشعبة أخرى.
فالشعبة العليا شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الركن الأول، بل هي أعظم الأركان، إذ الدين أركان وواجبات وكمالات، وأهم الأركان ورأسها وأعظمها شهادة أن لا إله إلا الله.
فلو قال أحد: أشهد أن لا إله إلا الله، وهو كاذب في قلبه، وكان من الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ فإنه يكون كافراً.
فهذا الركن الأول لا يمكن أن يسقط منه عمل القلب بأي حالٍ من الأحوال، فلو أن أحداً قال: لا إله إلا الله بلسانه ولم يقر بذلك بقلبه لا يقبل منه، حتى إن الكرامية يقولون: إنه غير مؤمن. ولكننا نقول: إنه مسلم باعتبار إجراء الأحكام الظاهرة فقط.
فهذا الحديث يجمع لنا بين أعظم حديثين في الإيمان والإسلام: الحديث الأول حديث جبريل عليه السلام الذي جعل شهادة أن لا إله إلا الله من أركان الإسلام، أي: من الأركان الظاهرة العملية، وفي نفس الوقت لابد من قائلها أن يكون مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، فلابد من أن يجمع معها الإيمان.
والحديث الآخر: حديث وفد عبد القيس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )، فالذي جعله هنا ركناً من أركان الإيمان جعله هناك ركناً من أركان الإسلام، فحديث الشعب يجمع هذين الأمرين: أنه لابد من أن يقولها بلسانه، وأنها شعبة من شعب الإيمان، فلابد من أن يكون مؤمناً بقلبه، وإلا فلا تقبل منه.
وأما الشعبة الدنيا فإماطة الأذى عن الطريق، وإماطة الأذى عن الطريق عملٌ أشبه ما يكون بالعاديات، أي: ما يعمله الإنسان عادةً من غير أن يفطن له، كما لو رأيت في بيتك أو في الطريق عند بيتك شيئاً فنحيته وأزلته من غير نية، فهل يعني ذلك أنه لا أثر له في صلاح الإنسان، أي: ليس له علاقة بعمل القلب مطلقاً؟!
والجواب: أن له علاقة، لكنها تخفى؛ إذ لا بد لكل عمل من علاقة قلبية، لكنها تخفى، فيُظن أنه من العاديات، فتجد الفاسق والفاجر إذا رأى أذى في مكان فإنه يأخذه بيده أو يزيحه برجله، وكل الناس يصنعون هذا؛ لأنه أمر معتاد في حياة الناس، لكن المؤمن عندما يحمل هذا الأذى ويضعه ينوي بذلك أنه شعبة من شعب الإيمان، فيؤجر عليه، فيكون له نية احتساب الطاعة والتقرب والعمل، فهذه شعبة عملية لا علاقة لها بعمل القلب إلا إذا نوى، ومن هنا كانت شعبة من أدنى الشعب.
وأما الشعبة الدنيا فهي الحيـاء، والحياء تنبيه على أن الأساس والأصل في الأعمال كلها هو عمل القلب؛ إذ الحياء في الأصل عمل القلب، ولكن يستحيل في واقع الناس أن أحداً يستحي دون أن يظهر ذلك في عمله، ومن ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الحلقة فدخل ثلاثة نفر، فوجد أحدهم فرجة فآوى إليها، واستحيا الثاني، وأعرض الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما الأول فآوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه )، فالثاني استحيا حيث لم يقدر على الخروج ولم يلق فرجة فاستحيا من الله أن يخرج فبقي.
فحين نقول: فلان استحيا فمعنى ذلك أنه ظهر ذلك في عمله ورأينا أثره، وإلا فالحياء -في الحقيقة- عمل قلبي، وهذا وحده تنبيه على أن أصل الواجبات وأصل الدين هو عمل القلب.
وحين يقول المرجئة : إن الله تعالى يقول: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22]، ويقول: (( وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ))[المائدة:41] ويقول: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106]، وإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( التقوى هاهنا )، فيستدلون بذلك على أن الإيمان هو ما في القلب؛ ونرد عليهم بقولنا: استدلالكم ليس صحيحاً؛ لأن كل ذلك لا يدل على أن الإيمان هو ما في القلب فقط، وإنما يدل على أن أصل الإيمان هو ما في القلب، وما يظهر على الجوارح فرعٌ عنه وجزؤه الظاهر.
فالأمثلة الواقعية والشرعية والعقلية الواضحة تدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة ، ولهذا ضرب الله تبارك وتعالى حقيقة الإيمان والشهادة فقال: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ))[إبراهيم:24].
  1. منزلة عمل القلب في الإيمان